أوزود:
في يوم الجمعة 2 يناير الذي يصادف ذكرى سقوط الأندلس شيعت جنازة المخرج حاتم علي الذي يلقب ب “عرّاب” الدراما العربية ومخرج ثلاثية الأندلس الشهيرة، إلى مثواه الأخير بموطنه الأصل سوريا، بعد أن توفي الثلاثاء في أحد الفنادق بالقاهرة، وترك قائمة مشرفة من الأعمال الدرامية.
خسارة كبيرة تلك التي تكبدتها الدراما العربية في الأيام الأخيرة من عام الوفيات هذا، بفقدان أحد أعظم مخرجي الدراما العربية، إذ ضجت وسائل التواصل الاجتماعي في الوطن العربي كله مغربه ومشرقه، برثاء عراب الدراما العربية الذي ملأ فراغا كبيرة في الدراما التاريخية وقدّم فيها إنتاجات خالدة باحترافية وإبداع في وقت تطغى فيه ضخامة الشكل على المضمون والتقني على الموضوعي.
خاض حاتم علي في المسالك الوعرة للتاريخ العربي والإسلامي كما نزل إلى أعماق غائرة في الراهن العربي التي كان يرى برؤيته الفنية أنها تشكل مفاصل الجرح الكبير للأمة. فقد تناول بوعي وإبداعية عالية المفاصل الكبرى للحضراة الإسلامية في قوتها وتضعضعها، وفي وحدتها وشتاتها، بدءا بعصبيتها الأولى وحميّتها مع حرب البسوس التي دامت أربعين سنة في مسلسل الزير سالم، ثم صعودها القوي مع شخصية عمر ثم صلاح الدين الأيوبي، ومرورا باستوائها في أوج الدولة الماسكة زام السلطة والمعرفة والترف مع ربيع قرطبة ثم بداية انحدراها مع ملوك الطوائف ثم مرحلة الإذلال وعنوانه الكبير الشتات في التغريبة الفلسطينية.
البداية بالقصة
مبتدئا ككاتب قصة انطلق حاتم علي الذي رأى النور عام 1962، حيث سعى للتمكن من الكتابة القصصية والمسرحية في الثمانينيات قبل أن يتخرّج من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عام 1986. وعدا أعماله الدرامية فقد ترك حاتم علي عددا من الأعمال الأدبية منها مجموعتين قصصيتين هما: “ما حدث وما لم يحدث”، و”موت مدرس التاريخ العجوز”، إضافة إلى ثلاث مسرحيات وهي “مات 3 مرات” و”البارحة – اليوم – وغدا”، و”أهل الهوى”، لكنه اشتهر أكثر بإخراجه لأعمال درامة عربية كبرى.
في أواخر التسعينيات أخرج مسلسل “الزير سالم” الذي شكل الباب الكبير الذي عرفه عبره المشاهد العربي على نطاق واسع، نظرا لموضوع المسلسل الذي يدور حول شخصية واحد من أشهر أبطال العرب في الجاهلية وهو المهلهل بن ربيعة والملقب بالزير سالم، وصولاته خلال حرب البسوس. الحرب التي دامت أربعين سنة وتقاتل فيها أبناء العمومة من أجل ناقة !
وبعد النجاح الكبير للزير سالم، عاد حتم علي عام 2000 ليقدم عمله الدرامي لشخصية بطولية من أشهر الشخصيات في التاريخ الإسلامي وهو مسلسل “صلاح الدين الأيوبي” الذي تُرجم إلى عدة لغات وعرض في قنوات تلفزيونية عديدة، وفيه التقى مع الكاتب وليد سيف الذي سيصاحبه طيلة الأعمال الدرامية اللاحقة ليقدما ثنائيا مندمجا توحدهما الرؤية ذاتها للتاريخ والفن.
سلسلة الأندلس
كانت الورقة الرابحة والأشهر التي استوى فيها إنتاج الثنائي هي الثلاثية الأندلسية “صقر قريش” 2002، و”ربيع قرطبة” عام 2003 ، و”ملوك الطوائف” عام 2005. وهي ثلاثية أبدع فيها وليد سيف وحاتم علي وتحكي تاريخ المسلمين في الأندلس من الصعود إلى السلطة والبذخ وحتى الانحدار. ورغم مرور سنوات على ظهور هذه الثلاثية إلا أنها مازالت واحدة من أشهر عناوين الدراما العربية والأكثر اقتباسا ورجوعا إليها على مواقع التواصل الاجتماعي، نظرا لتميز نصوصها وحواراتها الفريدة كتابة وإخراجا.
وكما لو كان حاتم علي يشتغل ضمن خيط ناظم لقراءة التاريخ، فقد ملوك الطوائف واصل عراب الدراما تصويره لهذا التردي الذي بلغته الحضارة العربية والإسلامية في انحدارها وأفولها ليقدم عام 2004 مسلسل “التغريبة الفلسطينية” عن الشتات الفلسطيني، وفيها أرّخ حاتم علي للألم العربي الممتد وأبدع في التحصين الفني للذاكرة من النسيان.
وبعد أعمال أخرى، عاد حاتم علي لهوايته الأثيرة عن الشخصيات الأعظم في التاريخ الإسلامي ليقدم عام 2012 مسلسل “عمر” الذي اعتبر العمل الأضخم من نوعه على المستوى العربي وقد خلق جدلا كبيرا عند بداية عرضه.
أخرج حاتم علي مسلسلات أخرى مثل “عائلتي وأنا” و”الفصول الأربعة” بجزئيه من تأليف زوجته دلع الرحبي،” الملك فاروق” و”تحت الأرض”، و”حجر جهنم” و”كأنه امبارح”، و”أهو دا اللى صار”، لكنه اسمه ظل مقرونا بدرة اعماله التي مثلتها الدراما التاريخية التي صورت الشخصيات والأحداث الكبرى للتاريخ الإسلامي.
عصرنة التاريخ
بقدر ما اشتغل حاتم علي على التاريخ فقد اشتغل من خلاله على الواقع على اعتبار أن كل تأريخ فهو معاصر، فهو يرى أن العودة إلى التاريخ لا تعني الهروب من الواقع أو الظرف الراهن، بل إن “التاريخ بحد ذاته قضية شخصية، تحمل في طياتها الكثير من النقاش” حسب ما قاله خلال أحد اللقاءات. بل أكثر من ذلك هو يرى أن “المشاكل التي تحصل في العالم سببها التغاضي عن النظر إلى الماضي بعين نقدية واستخلاص العبر منه. فنحن لا ننتقد قضايا اليوم لأنها تكرار لقضايا أمس”، على حد قوله.
بدون شك يشكل حاتم علي حالة استثنائية من الصعب على الأقل تكرارها، وربما لم يكن حاتم علي يعرف منذ البداية أنه سيتنهي بصناعة هذا المسار المشرف جدا حسب المشاهدين والنقاد، لكن كان يعرف شيئا واحد وهو الذي مَكَّنه من التفرد بأعمال سيحفظها له التاريخ، كان يعرف كيف يقول لا. يقول خاتم علي: “أعتقد أنّ ما يصنع مسيرة أي مُخرِج ليس فقط تلكَ الأعمال التي يقبل بإخراجها.. وإنّما تلكَ الأعمال التي يستطيع أن يقول لها “لااا”
هذه الـ”لا” هي التي ستخلد اسمه بهذه الأعمال العظيمة وتجعل رحيله باكرا خسارة من الصعب أن تعوض.
وأعلنت السلطات المصرية الثلاثاء عن وفاة حاتم علي بسكتة قلبية عن عمر 58 عاما داخل غرفته بأحد فنادق القاهرة. وكان الراحل يعيش مع أسرته في كندا منذ العام 2017 حيث اختار الهجرة بعد فترة عاشها بين بيروت والقاهرة، وكان خرج من دمشق بشكل نهائي منذ تفجر الثورة السورية عام 2012، الأمر الذي فسره كثيرون على أنه معارضة ضمنية للنظام. واتفق السوريون على اختلاف توجهاتهم على نعي الراحل حاتم علي والإشادة بما قدمه عبر الدراما والفن.
ثنائي مميز
في أعمال الراحل شارك فنانون مغاربة من بينهم الفنان محمد مفتاح الذي شارك اكثر من مرة في أعماله الدرامية. وبعد خبر وفاته قال مفتاح إن فقدان حاتم علي ليس خسارة للسوريين بل للعالم العربي والدراما العربية والسينما العربية. وأضاف خلال استضافته في قناة الجزيرة ” أعماله من الزير سالم إلى آخر عمل وهو عمر الفاروق ستبقى بين أذهاننا تسكن وجداننا، والآن يمكن أن نقول إن الدراما العربية يتيمية بعد فقدان أحد روادها الكبار”. وأشاد مفتاح بالثنائي المبدع الذي كان يشكله وليد سيف وحاتم علي، معتبرا أن أحدهما كان يكتب بالكلمات والثاني بالصورة وقد شكلا ثنائي الدراما العربية. ولفت مفتاح إلى أن أعمال هذا الثنائي كان تتحدث عن الراهن العربي عن طريق التاريخ “فهناك عدة إسقاطات في أعمالهما على عصرنا هذا فعندما نشاهد ملوك الطوائف نشاهد بلداننا العربية التي تتفكك قطعة قطعة”. وختم مفتاح كلمته عن صديقه حاتم علي بالقول “عندما كنا نريد أن نسمع أغنية رائعة كنا نلتجئ إلى محمد عبد الوهاب أو أم كلثوم او فيروز والآن إذا أردنا أن نشاهد مسلسلا دراميا أو مشهدا جيد في الدراما كتابة وإخراجا فنحن نشاهد أعمال حاتم علي”.
ورثى الآلاف من بلدان عربية شتى الراحل علي حيث اعتبر بعضهم أن أعماله رفقة وليد سيف التي أحدث فرقاً في عالم الإخراج والفن والابداع ربما تغني عن قراءة كتب التاريخ والسير والاعلام.
تعليقات الزوار ( 0 )